لماذا وُلِدَت الحرب؟
بقلم الدكتور جيلبير المجبر
الحرب، ذلك الوحش الذي لا يهدأ ولا يرحم، وُلدت من أعماق الإنسان. فمن منا لم يشعر باندلاع الصراع في بعض اللحظات من حياته؟ الحرب لم تكن يومًا وليدة العدم أو الصدفة، بل هي نتيجة تراكُم من العوامل الفلسفية والاجتماعية والسياسية. بدأت تجاربنا كأفراد في الحياة تُظهر أن الحرب تبدأ عندما ينهار الحوار، وعندما تصبح المصالح الشخصية فوق القيم الإنسانية، وعندما يتحول الإنسان إلى أداة لخدمة قوى أكبر منه، دون أن يُدرك ذلك أحيانًا.
في قلب لبنان، الذي يُعتبر تجسيدًا معقدًا للتنوع الطائفي والثقافي، تظهر الحرب كنتاج لتلك الفروقات التي، بدلًا من أن تكون مصدر قوة ووحدة، أصبحت سببًا للانقسام والعداوة. أتذكر حين كنت أستمع إلى قصص أجدادي عن الأوقات التي شهدت فيها بلدي الفوضى والدمار، كيف تحولت العلاقات بين الناس إلى ساحة معركة. فقد كانت تلك التجارب محورية في تشكيل فهمي للصراعات التي عصفت ببلدي. في كل مرحلة من مراحل التاريخ اللبناني، كانت الحرب تأخذ شكلًا جديدًا، لكنها في العمق تظل متشابهة في جوهرها، فهي نتيجة صراع على السلطة، والهوية، والانتماء.
الحرب: تعبير عن فشل الإنسانية
إذا تأملنا الفلسفة وراء الحرب، نجد أن الحرب في جوهرها تعبير عن فشل الإنسان في تحقيق ذاته بطرق سلمية. الفيلسوف الألماني هيغل كان يرى أن الصراع جزءٌ لا يتجزأ من التطور الإنساني، وأن الحرب تُسهم في تكوين الهويات وتثبيت الدول. لكن هذه النظرة التفاؤلية تذوب أمام واقع لبنان، حيث يبدو أن الحرب قد ولدت نتيجة لصراعات لا تنتهي، لا على المستوى الوطني فقط، بل أيضًا داخل كل فرد.
لبنان، ذلك البلد الصغير الذي تحاصره القوى الإقليمية والدولية، يمثل مرآة لصراعات العالم بأسره. عندما تتقاطع المصالح الإقليمية مع المصالح الطائفية الداخلية، يُصبح السلام فكرة بعيدة المنال. هنا، الحرب ليست فقط نتيجة لسوء التفاهم أو الاختلاف في وجهات النظر، بل هي تعبير عن لعبة كبرى تلعبها الدول على رقعة الشطرنج الجيوسياسية، ولبنان هو إحدى تلك القطع التي تُحركها الأيدي الخفية.
الهوية والصراع: معركة لا تنتهي
في الفلسفة، يُقال إن الهوية هي التي تُعرِّف الإنسان، لكن في لبنان الهوية ليست واحدة، بل متعددة. ومن هنا تبدأ المشكلة. تعددية الهوية اللبنانية كانت دائمًا مصدرًا للتنوع الثقافي، لكنها أيضًا كانت سببًا للصراع. عشتُ تجارب عديدة تؤكد كيف أن الطوائف المختلفة، والولاءات المتعددة، والمصالح المتضاربة كلها تجتمع لتخلق حالة من الفوضى التي لا تعرف الاستقرار.
الصراع في لبنان ليس فقط بين الطوائف، بل هو أيضًا بين الماضي والحاضر، بين الانتماء للوطن والانتماء للطائفة أو الحزب. الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975 ليست سوى مثالٍ حي على كيف يمكن أن تتحول الفروقات الطائفية والسياسية إلى معركة دموية. كم كنت أشعر بالحزن عندما أرى أصدقائي ينقسمون بسبب اختلافات كانت، في جوهرها، أقل أهمية من الروابط الإنسانية التي تجمعنا.
متى تنتهي الحرب؟
الفيلسوف توماس هوبز كان يرى أن الإنسان بطبيعته أناني ويبحث عن مصلحته الشخصية، مما يؤدي إلى حالة “حرب الكل ضد الكل”. في ظل هذه النظرة، لا يمكن للحرب أن تنتهي إلا بوجود سلطة قوية تُفرض بالقوة. لكن في لبنان، القوة لا تأتي من الداخل بل من الخارج، والقرارات المصيرية للبنانيين كثيرًا ما تكون مرهونة بمصالح القوى الإقليمية.
قد تكون نهاية الحرب في لبنان ليست في الأفق القريب، لكن الحل يبدأ من الداخل. لبنان بحاجة إلى إعادة تعريف هويته، إلى تجاوز الطائفية والمصالح الشخصية، وإلى بناء مجتمع متماسك يقوم على القيم المشتركة، وليس على الفروقات الطائفية والمذهبية. علينا أن نعمل معًا لتجاوز تلك الانقسامات.
خاتمة
وُلِدت الحرب من قلب الإنسان، من طموحاته، من أنانيته، ومن فشله في تحقيق العدالة والمساواة. ولبنان هو مثال حي على ذلك. الفلسفة وراء الحرب في لبنان تتجاوز حدود الصراع العسكري أو السياسي، فهي تتعلق بمعركة وجودية لكل فرد ولكل طائفة. والسؤال الذي يظل مطروحًا: هل يمكن للبنان أن يجد طريقًا للخروج من دوامة الحرب؟ أم أن الحرب، مثلما وُلِدت، ستظل تعيد نفسها مرارًا وتكرارًا؟
الأمل موجود، لكن الحل يتطلب جهدًا جماعيًا لإعادة صياغة هوية وطنية تضع مصلحة لبنان فوق كل اعتبار، حيث يُولد السلام من رحم التفاهم، لا من بقايا المعارك. لنستمر في الحوار، لنستمع لبعضنا البعض، ولنواجه التحديات بروح من التعاون والمحبة.